منهجية الإمام المهدي (عج) في كربلاء

 

د. غدير جمال

 

هنالك نظرية يطلق عليها وحدة التاريخ نجد إرهاصاتها جلية من خلال أحداث التاريخ منذ سيدنا آدم عليه السلام من خلال تلميحات جلية ذكرها القرآن الكريم وتكررت في روايات أهل البيت عليهم السلام، كما نجدها متمثلة بوضوح في الدعاء المروي عن الإمام المهدي (عج) المسمى بدعاء الندبة. لاحظوا إحدى فقرات الدعاء حيث يقول: (فبعضٌ حملته في فلكك ونجيته ومن آمن معه من الهلكة برحمتك، وبعض اتخذته لنفسك خليلا، وسألك لسان صدق في الآخرين فأجبته، وجعلت ذلك عليا، وبعض كلمته من شجرة تكليما وجعلت له من أخيه ردءا ووزيرا، وبعض أولدته من غير أب، وآتيته البينات وأيدته بروح القدس، وكل شرعت له شريعة، ونهجت له منهاجا وتخيرت له أوصياء مستحفظا بعد مستحفظ، من مدة إلى مدة، إقامة لدينك، وحجة على عبادك...)، حيث يشير الإمام إلى تسلسل تاريخي منذ سيدنا نوح وإبراهيم وعيسى وموسى عليهم السلام إلى سيدنا محمد (ص) مرورا بالإمام الحسين (ع) والحجة بن الحسن (عج). إذا ما أمعنا في نص زيارة الإمام الحسين عليه السلام نجد هذا التسلسل التاريخي واضحا يجسد حقيقة امتداد حركة الإمام الحسين امتدادا تكاملياً لجميع حركات الأنبياء والأئمة من قبله ومن بعده كما جاء في الزيارة: (السلامُ على آدم صفوة الله، السلامُ على نوح نبي الله، السلامُ على إبراهيم خليل الله، السلامُ على موسى كليم الله..) وأيضا جاء في زيارة وارث: (السلامُ عليك يا وارث آدم صفوة الله، يا وارث نوح نبي الله، يا وارث إبراهيم خليل الله، يا وارث موسى كليم الله، يا وارث عيسى روح الله، يا وارث محمّد حبيب الله). في هذا السياق نجد مدرسة واحدة في تسلسل تاريخي يتلخص منهجه بهدف الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام منذ بدء الخليقة، هذا المنهج يهدف لإصلاح المجتمع الإنساني وتحقيق العدالة وتأمين السلام على مر العصور. إن مبدأ الإصلاح هو مبدأ قرآني رباني تبنته جميع حركات النبوة والتبليغ السماوية، وكثيرا ما ردّد القرآن الكريم في نصوصه الشريفة ذلك المبدأ كهدف سامي للبشرية. إن المتمعن في حركة النهضة الحسينية يجد تأكيداً دقيقا لقيم العدالة وإحقاق الحق كمحور أساسي ليس فقط في مكونات الثورة والتبليغ وإنما أكده الإمام (ع) كأساس لكل العبادات والحركات النهضوية والدعوات الربانية على الإطلاق. الإمام الحسين عليه السلام كان وما زال مثالاً حياً لذلك الهدف الرباني مجسداً قوله تعالى: (إِنْ أُريدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفيقي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنيبُ) سورة هود، آية 88. لقد ركز الإمام الحسين عليه السلام على ضرورة الإصلاح وتطبيقه ميدانياً على جميع الأصعدة، كما تمثل ذلك في كثيرمن أقواله وأفعاله، كمقولته الشهيرة لمحمد بن الحنفية: (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مُفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدي. أُريدُ أن آمرَ بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن ردّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خيرٌ الحاكمين).

إن أساس نهضة الإمام عليه السلام هو قبول الحق (إعرف الحق تعرف أهله)، هذا المعيار الذي لم يكن قائما في زمن الطغاة والسلاطين ودجل الإعلام الأموي، فترتب على ذلك دعوة مدوية لمعرفة الحق وقبوله وإلغاء للذات البشرية وحب الأنا. كان ذلك المعيار وما زال أساساً لجميع حركات التغيير، حيث أنه معيار رباني يمنع الطغاة من تشويه صورة الحق وحركته ويبعد عن حركة الإصلاح أي اتهام بالشخصانية، كاتهام الإمام مثلا باستغلال قرابته من رسول الله (ص)، فهي دعوة لقبول الحق مهما كان مصدره. لقد ارتكز الخطاب الحسيني مع الخطاب المهدوي على عدة أطر مشتركة من أهمها: طرح الظلامة وبيان ظلامة الحق المتمثلة بظلامة أهل البيت عليهم السلام، وتقييم الواقع الاجتماعي للأمة الذي يلخصه إنحراف واضح عن جادة الصواب، وضرورة الانتصار للحق حتمية تفرضها الفطرة البشرية السليمة المنبثقة من هدف الخلقة. وحتى يعود الحق إلى نصابه لا بد من تضحيات تدعم نجاح عملية الصحوة وإحياء لقيم دفنتها عقود من الظلم والاستبداد وتبديل الحقائق. لقد تبنى الإمام الحسين عليه السلام في حركته منهجية العطاء التي أعطت للثورة قداستها النابعة من هوية المضحى وعلو مقامه، حيث رسخ الإمام منهجية التضحية بأسمى صورها، مطبقا سنة من السنن الكونية العظيمة المتمثلة بمبدأ الفناء في مقابل البقاء، هذا المبدأ يثبت حقيقة أن كل شيء يفنى ولكن حينما يكون الفناء لأجل بقاء شيء أسمى في المقابل فإنه يكتسب قداسة وخصوصية فريدة. وحتى يعود المجتمع إلى الحق ويعرف السبيل القويم لا بد من تجسيد تضاريس الطريق وتأصيل المبادئ التي غيبها الطغيان وبدلتها أبواق الظلم لعقود عديدة، كل ذلك يتطلب ثمناً باهضاً في مقابل الواقع المنحرف، وليس هنالك أغلي من تقديم النفس متمثلا بكيان الإمام الحسين عليه السلام في سبيل ذلك. لقد كان عطاء الإمام الحسين (ع) بوجوده الكامل من الناحية المادية والمعنوية، وما يقدس هذا العطاء هو حقيقة كونه عطاءً اختيارياً بمحض الإرادة مما جعلتها حركة نهضوية فريدة من نوعها كونها لخصت في زمنٍ قصير نتائج مبهرة ومستمرة، محققةً بذلك الحفاظ علي الشريعة السماوية الأصيلة وإحيائها وديمومتها. وإذا ما أردنا تحليل الحركة المهدوية فإننا نجد أنه تم إرساء قواعدها من خلال النهضة الحسينية الشريفة، ولولا هذه النهضة وما قبلها من حركات تمهيدية لما تيسرقيام حركة التمهيد للظهور المبارك، فلكل بنيان أساس يمهد لهيكله، وشاء تعالى أن تكون نهضة الحسين (ع) أساساً لهيكلية الظهور المبارك الذي يتحقق من خلاله أهداف كل الرسالات السماوية وهو نفس غاية النهضة الحسينية بإحقاق الحق وإرساء العدالة، وإنما يكمن الإختلاف بين الحركتين -الحركة الحسينية والحركة المهدوية- في نطاق إحقاق الحق ومداه، حيث تتمثل الحركة المهدوية بنطاق واسع وشامل لتحقيق الحق كما جاء في كثير من النصوص القرآنية والروائية الشريفة التي تنص على الشمولية (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً مثلما مُلِئت ظُلماً وجوراً فكلمة (الملأ) تشير إلى الشمولية والكمال الذي لا يشوبه نقصان، فيتحقق الحق وكل العدالة حتى لا يبقى شبر علي وجه الخليقة دون تطبيق هذا الوعد الإلهي.

إن هنالك مقومات لا يتحقق دونها الوعد الإلهي المنشود، إذ يحتاج المجتمع لأرضية ثقافية واجتماعية وفكرية تستمد قوتها من الفطرة الإنسانية السليمة وجداناً وفكراً يتمثل بالعقل والضميرالإنساني الحي مما يؤسس قاعدة بشرية واعية وحية بضميرها الإنساني وعقلها وقلبها، حيث أن الحق لا يمكن استيعابه من قبل قلوب ممسوخة ختم عليها بسوء أفعالها. ولإنشاء هذه القاعدة البشرية الممهدة للوعد الإلهي فإننا نحتاج لمنهج حي، ولم يكن يصلح المنهج المنحرف الذي أسسته آليات الحكومات الجائرة التي امتدت إلى زمن الإمام الحسين عليه السلام، فأسس عليه السلام أوليات دولة العدل الإلهي من خلال نهضته المباركة التي هي امتداد لما أرساه من قبله الأنبياء إلى رسول الله (ص) وبعده أمير المؤمنين والإمام الحسن عليهما السلام. لقد أرست النهضة الحسينية خطابا تاريخيا حدد وسائل الإصلاح، هذا الخطاب خط بوضوح وسائل تحقيق الهدف التي أولها نصر الله. ولتحقيق مقومات النصر (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، فنحتاج لليقين الذي تدعمه قواعد التقوي، ولا يصل الانسان لقمة الهرم في مسألة التقوى واليقين إلا بتجريد النفس من كل تعلقات الدنيا والخلوص في الله عزوجل وبذل النفس والمال والولد، وهذا ما حصل مع الإمام الحسين عليه السلام حيث وصل ببذله إلى أعلي مراحل اليقين. يقين الإمام الحسين عليه السلام كان قويا راسخا لا تشوبه شائبة، فلم يثبطه حديث من حوله من الأهل والأصدقاء وبعض الأصحاب من دافع الحب والشفقة عليه، ولم يثبطه أويزعزع ثقته بالله خيانة أهل الكوفة وتكالب الجميع عليه حتي حين تزعزع كثير من الناس من حوله وخذلوه، بقى ثابتا واثقا بالوعد الإلهي وبمبدأ الشهادة. يعتبراليقين أهم مقوم للنصر ويعتبرأساس لحركة الحسين (ع) وكذلك حركة الإمام المهدي (عج)، فتلك الحركة من تلك، وجهان لعملة واحدة. هنالك مقوم آخر للنصر يتمثل بالقاعدة البشرية التي نسميها الأنصار، حيث تمثل هذه القاعدة العمود الفقري لنهضة الإمام، لأن حقيقة النهضة هي إصلاح البشرية وليس إصلاح المعصوم، وبالتالي تحتاج هذه النهضة لعناصر تمثل هؤلاء البشر وتكون مشرفة تنير هذه النهضة بوسام البطولة والكفاح والبذل وتتسم بالطاعة للقائد واتباع نهجه وأوامره اتباعا خالصا.

كما ذكرنا سابقا فإن مبدأ الإمام المهدي عليه السلام هو مبدأ الإصلاح، كما بقية الحركات المستمدة من السماء كحركة الأنبياء والأئمة (ع). إن هذا المنهج الإصلاحي المتواصل هوامتداد لجميع الحركات السابقة ولكنه خاتمة لها، حيث أن جميعها كانت تريد تحقيق مبدأ العدالة ورسخت بالفعل لمقدمات هذا المبدأ، ولكن تحقيق الهدف كاملا لا يكون إلا في زمن الإمام الحجة بن الحسن عليه السلام وعند ظهوره المبارك والعاجل إن شاء الله تعالى. ويتم بذلك تصحيح مخرجات الحركات الأخرى من ناحية القصور في تحقيق الهدف، هذا القصور الذي يلخصه تخلف القاعدة البشرية ونقصان المقومات التي تحقق النصر! فلو وقف جميع أهل الكوفة وجميع الأصحاب مع الإمام لانتصر الحق على جيوش العدو ولتحققت العدالة، ولكن ظروف الأمة لم تكن مهيئة، بل كان ينقصها الرشد، وهذا الرشد يمثل مقوماً آخر للنصر، ولا يتحقق الرشد للأمة إلا في ظروف معينة تحتاج لسنين من الدعوة والتجارب الزمانية والمكانية، وشاء الله تعالي أن تكون أمة الإمام الحجة (عج) هي الأمة الراشدة وبالتالي تتحقق لها مقومات النصر ويكون على يدها المطالبة بالعدالة لكل الحركات السماوية السابقة وخصوصا ثورة الإمام الحسين، كما في الرويات أن الإمام المهدي (عج) يرفع شعار (يالثارات الحسين)، وفي دعاء الندبة: (أين الطالب بذحول الأنبياء وأبناء الأنبياء، أين الطالب بدم المقتول بكربلاء …).

إن العوامل المشتركة بين حركة الإمام الحسين ع وحركة الإمام المهدي واضحة جلية في أربعة عناصر: أولها وحدة الشخصية المتمثلة بالمعصوم عليه السلام، والثاني وحدة التاريخ المتمثلة في الامتداد التسلسلي لتاريخ البشرية. ثم يأتي العنصر الثالث وهو وحدة الهدف المتمثلة بالإصلاح الشمولي وتحقيق حاكمية الإسلام عن طريق التغييرالجذري للمجتمع ومن ثم تحقيق العدالة، رابعاً وحدة المنهج المتمثلة بفلسفة الحركة التحررية. الإمام الحسين عليه السلام كما الحجة عج كلاهما يتحرك من منطلق الوظيفة الشرعية والتكليف الإلهي وليس من منطلق الرغبات الشخصية والقياس العقلي الفردي، وهذا التكليف هو حكم وفرض وهنا تكمن نقاط الاشتراك في الفلسفة بين الحركتين. ولكن ما هو تفصيل هذه الوظيفة الشرعية وهذا التكليف الإلهي ؟ إن تفصيله يكمن في الوظيفة الشرعية التي تتلخص في إقامة شرع الله بالإصلاح والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف، كما في الآية الكريمة: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). ويجب الإشارة هنا إلى أن تشخيص التكليف الإلهي ينفرد به المعصوم كونه صاحب العلم اللدني، وبالتالي هو تكليف إلهي بتشخيص من الإمام المعصوم عليه السلام.

إذا أردنا أن نلخص منهج الحسين (ع) وامتداد هذا المنهج المتمثل في حركة الظهورالمبارك نجد أنه يبدأ بالتضحية والفداء والتجرد من الأنا والذات عن طريق الذوبان الكامل في الله عزوجل، وينتهي بتحقيق العدالة وأخذ الثأر والقصاص الذي يحقق بدوره عدالة كاملة شاملة. لماذا تحتاج حركة المهدي للقصاص من أمر حدث قبل ١٤٠٠سنة ؟ إن القصاص يكون من جنس العمل، وكما أن حركة ونهضة الحسين (ع) ممتدة لزمان الحجة عج، كذلك حركة الضلال فإنها أيضا ممتدة. إن مبدأ الشمولية لا ينحصرعلى فكرة العدالة بل يشمل كل مقومات تحقيق العدالة، حيث نحتاج لرشد (فهم) مجتمعي شمولي يخاطب البشرية ويتوسع بمداه لمساحات أوسع من مجتمع الكوفة أو مجتمع المدينة. وتتطلب مرحلة تحقيق العدل الشمولي قاعدة أنصار تشمل جميع المجتمعات والطوائف البشرية المسلمة وتتعدى مرحلة اليقين الفردي وتحقق يقينا مجتمعيا راسخا فتكون كلمة الفصل هي جمعية (بمفهوم الجماعة) فيتحقق وعد الله تعالي (يد الله فوق يد الجماعة). ولتحقيق الأمر الجمعي فإن هنالك متطلبات للنصر تبدأ بتفهم المرحلة السابقة والللاحقة، هذا الفهم لا يحققه سوى منهجية الإسلام الكامل الذي لا يكتمل فقط بمجموع حركات الأنبياء والأئمة وإنما يستكمله حاجة البشرية الفطرية لقائد ومنقذ، وهذا ما يكمله زمان الغيبة من تجارب تسهم في بلورة العقل البشري للمجتمع الإسلامي وكذلك بلورة العقل البشري بأكمله على ضرورة وجود هذا المنقذ، وبالتالي يصبح الجميع في انتظاره وعلي أهبة الاستعداد. إن الاستعداد المجتمعي يتطلب إمكانًا من السماء، هذا ما يطلق عليه الفلاسفة بالإمداد الغيبي، وهذا الإمكان فرضته السنن الكونية (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، وهو إمكان حددته قاعدة الحاجة الفطرية بالبشر للسلام والسكينة. إن الإمكان الذي يحققه التمهيد لظهور الحجة عج سيشمل جميع حالات الإمكان، الإمكان الفلسفي وفلسفة الحاجة الفطرية لمنقذ ومخلص من الظلم، والإمكان العلمي وهو المتوفر لأنصار الإمام المخلصين في تحقيق الهدف من الخلقة، والامكان العرفي وهو المتحقق بأعراف جميع الملل على وجه الأرض ويتحقق بالسنن الكونية.