بسم الله الرحمن الرحيم

أين عدالة السماء من شرور الأرض؟

" العدل الالهي و فلسفة الخير والشر" 

 

           اعداد تقديم

 د.نجاة عاشور

الصلاة والسلام على خير الخلائق أجمعين محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.

قال تعالى: (إِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا،هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) الأحزاب 10ــ 11.

كيف يسمح الله تعالى بالشر؟ و لماذا يبتلى الخيرون؟ بعد استغفارالعبد الذليل من المولى المتعال ، أقول تبرز عادة مثل هذه الاسئلة العقائدية والفلسفية حول مفهوم العدل الالهي  وحقيقة الخير والشر وتشتد الحاحا في الظروف الحالكة مثل وقوع الكوارث الطبيعية ، وفي الحروب، كما يحدث اليوم في غزة من ابادة بشرية ممنهجة وظلم وتجويع بحق الأبرياء والعزَل. محورها السؤال أين عدالة السماء مما يحدث في الارض؟.

وللاجابة على السؤال سوف نتناول في هذا البحث بشكل مختصرالمحاورالتالية:

1- مفهوم العدل الالهي .

2- (أ)  مفهوم الخير والشـر في المنظور العقلي الفلسفي .

    (ب) مفهوم الخير والشـر في المنظور القرآني.

3- مفهوم اللطف والعوض الالهي.

4- دور المصائب والآلام في تكامل البشرية.

5- نظرية القوة الكامنة والاقتراب من الفرج.

أولا : العدل الالهي :

تمهيد :

1- إن الله خير مطلق ولايصدر عن الخير الا الخير اذن الوجود كله خيربدليل القرآن    }الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ السجده 7. 

2- وان كل ماعند الانسان من الله تعالى هي نعم تفضليه منه وليس للمملوك حق على المالك تعالى في شي.

3- لكل موجود موقعه الوجودي المعين وذاته متقومه بذلك الموقع المعين.

 ﴿ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍۢ  القمر - 49

﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ الحجر: /21

4- ان الله له ارادة واحده تعلقت بالوجود كله من اسباب ومسببات.

﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ سورة القمر/50

 

- في معنى العدل الإلهي : مفهوم عام ومفهوم خاص

نحن نعتقد وفقا للمنظور القيمى الاسلامى بان الفعل الالهى المطلق يتصف بالعدل : ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم﴾ الأنعام 115.

- المعنى الاول:  اعطاء كل ذي حق حقه. فالعدل الالهى لازم التحقق سواء فى المبتدا او المنتهى ، اى ان كل فعل خير يثاب سواء فى الدنيا او الاخره ،وكل فعل شرير يعاقب سواء فى الدنيا او الاخره ﴿ فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرا یَرَهُۥ،وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّة شَرّا یَرَهُۥ ﴾ الزلزلة ٧-٨ . فالنصوص تقرر ان العذاب الاخروى ليس غايه فى ذاته ، وانما هو وسيله لتحقيق العداله الالهيه  ﴿ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا النساء147

- المعنى الثاني : إفاضة الوجود على الاشياء بحسب استعدادها وهو يختص بالله تعالى.

والعدل الالهي من مصاديق الحكمة الالهية بل وفقا لبعض التفاسير هو الحكمة الالهية نفسها. والعدل هو اصدار الفعل على وجه الحكمة بحيث تعتبر رعاية حقوق الاخرين من مصاديقه كما يقول العلامة اليزدي. وعليه بمقتضى الحكمة والعدل الالهي أن يكلف كل انسان بمقدار استعداده وقابليته، وان يقضى ويحكم فيه على حسب قدرته وجهده الاختياري، وأن يجازيه ثوابا وعقابا بما يتلاءم وأفعاله.

ثانيا (أ): مفهوم الخير والشر من المنظور العقلي الفلسفي

= النظرية الاولى: "ان الخيرات والشرور هما من قبيل الوجود والعدم ، بل الخيرات هي عين الوجود والشرور عين العدم، فكلما تحدثنا عن الشرور فاننا نكون قد تحدثنا عن العدم والفقدان, لان الشرور اما ان تكون عدما بذاتها واما أن تكون وجودا يستلزم لونا من العدم اي انها موجودات خيرة جيدة بما هي في ذاتها ولكنها تصبح شرا لانها تستلزم لونا من الوان العدم، ومن هذه الجهة اي جهة استلزامها للعدم فهي من نوع الشرور وليس من كل الجهات.  فنحن نعد الجهل والفقر والموت من الشرور، وهذه عدم بذاتها, اما الزواحف السامة والوحوش المفترسة والمكروبات والافات فهي ليست عدما بذاتها وانما هي موجودات تستلزم عدما " (مطهري، العدل الالهي ، ص158-159)

*الخلاصة:الشر يكمن في الفقدان والخسارة. والشر هو عدم الخير.

= النظرية الثانية: ان الشر أمر نسبي وليس حقيقي ، فالمطر مثلا للمزارع خير وللفقير الذي يعيش في كوخ مهترئ شر، يقول العرب مصائب قوم عند قوم فوائد.

 = النظرية الثالثة :الشر من حيث هو جزء من لوحة الوجود الكامله هو خير. ولكن اذا نظرنا له مستقلا يكون شر، فكل موجود يكمل الاخر ويظهر حقيقته واسراره . فلولا الألم مثلا ماعرفنا اللذه . ولكل موجود جزء وحصه من الكمال ، فالمؤمن والكافر كلاهما من حيث خصائصهما البشرية هما مظهر للكمال .

*الشر العرفي والشر الفلسفي

 إن المفهوم العرفي اي الشائع عند الناس للشر مركزه وجوهره الألم ولكن المفهوم الفلسفي يقول الألم لا يكون شرا إلا إذا انتفت المصلحة منه وهذا لا يمكن اثباته، لأن الآلام والمحن تقوّم الانسان سواءا على المدى القريب أو البعيد فلا ألم بلا مصلحة ؛

(مارأيت الا جميلا) .

من أين جاء الشر اذن ؟

* الشر ياتي من عدم انسجام الاشياء مع بعضها، فمثلا وجود الانسان بذاته خير ولكنه يمثل الشربالنسبة  للحيوانات التي ناكلها وهكذا.

 

-ولكن كون الشرور عدمية غير كافي لفهم العدل الالهي، بل يعتبر المرحلة االاولى في فهمه، لذا يبقى السؤال لماذا وجد النقص والعدم طريقه الى نظام الوجود؟ لماذا يسمح الله تعالى به؟ لماذا لا يمنعه؟ لماذا يوجد انسان ناقص الخلقة واخر كامل انسان غني واخر فقير وهكذا؟ فكون الفقر والنقص من الامور العدمية غير كاف لحل الاشكال، و يبقى السؤال : لماذا لم يحل الوجود محل ذلك العدم؟ باعتباره منعا للفيض ومنع الفيض من الظلم حاشى لله تعالى؟

فهناك امور وجودية متولده من امور عدمية من قبيل الجهل والعجز و الفقر وهذه الامورالوجودية بدورها تسبب سلسلة نقائص عدميات من قبيل الامراض والزلازل، والعدل الالهي يوجب ان لا توجد هذه الامور حتى لانعاني من اثارها.

الحل: من منطلق العدل الالهي ننظر للامر من زاويتين:

س1- هل من الممكن انفكاك هذا النقص من الموجودات في الكون؟بمعنى هل يمكن ان يكون الكون ممكن الوجود بدون هذه النقائص؟ ام انها من اللوازم التي لاتنفك عن هذا العالم؟

الجواب: ان النقص من لوازم الممكن والا كان كواجب الوجود وهو الله عزو جل

( الله واجب الوجود ، أما المخلوقات فهي ممكنة الوجود وهي بهذا المعنى موجودات تعلقية محتاجة لغيرها وهذا عين النقص فيها). "ان الفعل الواحد ينسب لشيئين لواحد قائم بنفسه معطي والثاني محتاج اليه متقوم به لاينفصلان عن بعضهما لان بمجرد الانفكاك الفقير ينتهي وينعدم لان وجوده قائم بغيره ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ فاطر 15.اذن فنحن في كل آن محتاجين لله تعالى وهذه هي نظرية القرآن . افعالنا كلها قائمة بموجود غني. الله مادام يمد العالم فهو موجود واذا انقطع المد ينعدم العالم". ( سيد كمال الحيدري)

وكما يقول الشهيد مطهري:" ان كل موجود في النظام التكويني يعاني نقصا فذلك من جهة نقصان قابليته وليس بسبب إمساك الفيض عنه حتى يعد ظلما أوترجيحا".

 

س2- هل هذه التي نسميها نواقص هي شر محض أم فيها خير مستتر؟

الجواب:اضافة الى ماتقدم من شرح ، وما سيتقدم على ضوء الرؤية القرآنية ، فإن مقتضى الحكمة الالهيه المطلقه تنقسم الى قسمين:
- حكمه معلومه: أي يعلمها الإنسان، لان الله تعالى ابلغ بها البشر من خلال الوحى، ومن أمثلتها حدوث (الشر) كجزء من الابتلاء الالهى للإنسان ، وان الابتلاء (بالشر) له غايات متسامية يأتي شرحها.


- حكمه خفية: لا يعملها الانسان,لان الله اختص نفسه بها فهى غيب، ومن امثلتها ان حدوث شر جزئي ظاهر ، قد يكون وراءه خير كلى خفى لايعلمه الا الله تعالى . ومن ادلتها قوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهࣱ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـࣰٔا وَهُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تُحِبُّوا۟ شَیۡـࣰٔا وَهُوَ شَرࣱّ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ البقرة ٢١٦.

فالإنسان باعتبار ضعفه وجهله قد يتوهّم ما غايته خير شراً وما نهايته شر خيراً، فينظر إلى ظواهر الأمور وبداياتها ولا ينظر إلى عمقها ونهاياتها. وهذا ما تشير إليه الآية.

يقول الإمام العسكري (ع):  "ما من بلية إلا ولله فيها نعمة تحيط بها" .

 

ثانيا (ب): مفهوم الخير والشر في القرآن الكريم

1- لقد قدم القرآن الشر على أنه أمر واقعي في العديد من الآيات الكريمة، منها سورة الفلق والناس ، اقرارا بوجود شي اسمه شر بصرف النظر عن تعريفه.

(قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ ، مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ، وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ،وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ ، وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) ،

(قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ ، مَلِكِ ٱلنَّاسِ ، إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ ،مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ ، ٱلَّذِي يُوَسۡوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ ، مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ)

2- ويتضح من نصوص القرآن الكريم أن الشر حقيقة واقعية لا علاقة لها بادراك الانسان لها أو عدم ادراكه؛ ولا بمشاعره حبا أوبغضا لها ، أي أن الشر حقيقة موضوعية احببناها أو أبغضناها.  (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) آل عمران :180

(وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ) الاسراء:11

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة: 216

 

3- يطرح القرآن الانسان كأبرز هذه الشرور الواقعية:

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) الانفال:55

(أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) البينه:6

الأشرية تأتي بمقدار الابتعاد عن الله حتى يصل الى أن الكفر فيكون الأشر .

- و طبقا للمنظور القيمى الاسلامى فان الشر الحادث فى العالم هو محصلة الكسب البشرى ﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ﴾ الروم ٤١.

 ﴿وإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى الله ما لا تعلمون﴾ الاعراف 28

اذن المسؤول عن الشر ليس العلة الفاعلة وهو الله تعالى بل العلة القابلة وهو الانسان.

4- القرآن يعتبر الشر مثل الخير. (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الانبياء:35 ، ففي حساب الحكمة الالهية الشرور والخيرات فتن للانسان ؛ لذلك النصوص الدينية والقرآن ترى أن الشرور منشأها 3 أمور:  ابتلاء ، عقاب ،عوض الهي :

 

1-الابتلاء: حتى يتكامل الانسان فهو بحاجة الى هذه (الشرور)، ولكن من جهة أخرى ينبغي أن ننظر للشرور من خلال منظومة متكاملة تضع الدنيا في سياق الآخرة. ( فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ، كَلَّا ۖ ....) الفجر: 15-16

﴿أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ  العنكبوت  2ـ 3

﴿وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالّثمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ  البقرة  155.

﴿...وَلَوْ يَشَاءُ اللّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِن لِيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ...  محمّد 4.

2- ابتلاء الكفارعقابا لهم ، فهو لم يكن اختباراً ولا امتحاناً، وإنّما كان عذاباً كما عبّرت عنه الآيات القرآنية: ﴿ . . فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ  الأنعام  6.. والإهلاك هو العذاب والعقاب الإلهي بسبب التمرد على التعاليم الإلهية، والكفران بنعم الله والظلم: ﴿وَمَا كُنّا مُهْلِكِي الْقُرَى‏ إِلّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ  القصص 59.

(وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا) الجن: 16

 

ثالثا : مفهوم اللطف الالهى: ان المنظور القيمى الاسلامى يقرر ان الشرالحادث فى العالم مع كونه محدود ومصدره مخلوقاته وليس ذاته ، وكون الله قد اذن به على مقتضى الحكمة الالهيه المعلومه او الخفيه - لغايات خيره، فإنه خاضع للطف الالهى المطلق والذى يدل عليه كون اللطيف من أسمائه الحسنى ﴿ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ الملك:14

وله مظاهر متعددة ومنها:

مفهوم العوض الالهى: ان كل من أصابه هذا الشر المحدود ، المنسوب الى مخلوقات الله ، والذي أذن تعالى بحدوثه بحكمه الهيه معلومه او خفيه، فان الله تعالى يعوضه بدلا منه خير، سواء فى الدنيا او الاخره ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" ما أصاب العبد من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه".( صحيح مسلم)

وعنه (صلى الله عليه وآله):" لا تكون مؤمنا حتى تعد البلاء نعمة والرخاء محنة، لأن بلاء الدنيا نعمة في الآخرة، ورخاء الدنيا محنة في الآخرة" ( البحار)

وهذا مما تبناه المتكلمين المسلمين. اذن وفق هذه الايديولوجيا الدينية فان الحرمان ليس شرا.

رابعا: دور المصائب والآلام في تكامل البشرية.

 

إن إرادة الخير من الله للانسان لها مفهوم يختلف عن فهمنا نحن البشر؛ فنحن نرى الخير في الدعة والراحة والطمأنينة، ولكنه تعالى يريد للانسان ان يتكامل وطريق التكامل فيه مشقة وتعب وهو ما نراه نحن البشر (شرا) ؛ذلك حين حكمنا على الفعل الالهي من منظورنا البشري القاصر؛ من هنا كان الشر بهذا المعنى ضرورة تكاملية تربوية روحية ، وليس خيارا سواءا على الصعيد الفردي أوالاجتماعي.

" أشد الناس بلاءً في الدنيا النبيّون ثم الأماثل فالأماثل، ويبتلى المؤمن على قدر إيمانه وحسن عمله، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومَنْ سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه " تحف العقول، الحرّاني، ص27..

نفهم من الرواية أن البلاء ليس فقط ضرورة بل نعمه لانه يصنع الارادة ليقاوم بها مصائب الحياة والمعاصي؛ اذن الانسان محتاج للبلاء لانه محتاج ليمحص ارادته . الناس عبيد الدنيا .. فاذا محصوا بالبلاء فمنهم من يخرج خاسرا ومنهم من يخرج بارادة صلبة. عن الامـام الـكـاظـم (ع) : "لن تكونوا مؤمنين حتى تعدوا البلاء نعمة والرخاء مصيبة".

 

= الوجود الانسانى " المستخلف " وجود ابتلائى " اختبارى

 ﴿ يَاأَيُّهَاالإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ الانشقاق6.

إن «النمو الحقيقي في مفهوم الإسلام أن يحقق الانسان الخليفة على الأرض في ذاته، تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعاً في الله عز وجل الذي استخلفه واسترعاه أمر الكون… ولما كانت هذه القيم على المستوى الإلهي مطلقة… وكان الانسان الخليفة كائناً محدوداً، فمن الطبيعي أن تتجسد عملية تحقيق تلك القيم إنسانياً في حركة مستمرة نحو المطلق وسير حثيث إلى الله» (الشهيد الصدر).

ويصف السيد الشهيد محمد باقر الصدر رض هذه الحركة المستمرة نحو المطلق بأنها حركة ارتقائية وتصاعدية نحو الكمال « فإن هذه الآية المياركة تضع الله هدفا أعلى للانسانية ككل، وكدح الانسانية ككل، نحو الله سبحانه، يعني السير المستمر بالمعاناة والمجاهدة، لأن هذا ليس سيرا اعتياديا، بل هو سير إرتقائي، هو تصاعد وتكامل» (الشهيد الصدر) .

و يلزم منه على المستوى القيمى ان حركه الوجود الانسانى المستخلف عباره عن صراع مستمر بين الخير والشر ﴿ لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِي كَبَدٍ ﴾ البلد 4.، على المستويات المتعدده لهذا الوجود (الذاتيه والموضوعيه/الفرديه والجماعيه / الماديه والروحيه –المعنويه )، لا يتوقف الا بتوقف هذه الحركه، بانتهاء هذا الوجود بالموت. ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ الملك 2

 

-إن تكامل الانسان مرتبط  بعامل الاختيارالبشري الحر، والحكمة من وجود الشر ان يعيش الصراع بين الطريقين ليصل بصموده الى كماله.

فلو سلبنا عامل الاختيارالحر وسلبنا الشر سيرتفع الظلم نعم ، ولكن سيفقد الانسان قيمته ومرتبته الوجودية (يصبح كالملائكة). وستنتفي بذلك فلسفة الحكمة الالهية من أصل الخلقة. وكان سر اعتراض الملائكة هوالخوف من الظلم فقال تعالى ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ  البقرة: 30. هذا الانسان سيخرج منه الانبياء والاولياء وسيحدث كمال وارتقاء في مسيرة البشرية من خلال هؤلاء الصالحين.

وكأن الله تعالى بحكمته البالغة اراد للانسان ان يعيش لذة الانتصارالحقيقي على قوى الشر من خلال تكبده مرارة الآلام والصبروالمعاناة في الصراع المرير بين قوى الخير والشر ليتمسك بثمرة هذه المعاناة ويعرف قيمة الغاية المتسامية التي من اجلها تكبد كل تلك التضحيات الجسام والتي لا يمكن تحصيلها دون معايشة مرارة الألم ومكابدة الشرور للتغلب عليها والفرح بالفوزعلى الشر في داخله اوعلى قوى الظلام في الخارج (ولن يعرف قيمة الخير الا اذا واجه الشر لان الاشياء تعرف باضدادها).

 

خامسا: نظرية القوة الكامنة والاقتراب من الفرج.

 

القوة الكامنة وتعني في الفيزياء الطاقة المخزونة في جسم ما وهو في حالة السكون، ويكتسبها الجسم بسبب وقوعه تحت تأثير عوامل معينة كالجاذبية أو ضغوط أو شحنات كهربية ؛ ويمكنها أن تتحرر على شكل طاقة حركية.

وأيضا الديناميكيا النفسية تعبير آخر عن مفهوم القوة الكامنة من وجهة نظر علم النفس مشابه للمعنى الفيزيائي.

أما فلسفيا فإن القوة الكامنة هي تلك الطاقة الذهنية والروحية المخزونة عند الانسان؛ والتي تعتبر القوة الدافعة والمحركة له عندما تنتقل من منطقة القابلية والاستعداد الى منطقة الفعل.

على مستوى القابليات والامكانات فان الانسان مزود بطاقات وارادة هائلة تمكنه من الصمود والترقي تفوق مايقدمه على المستوى الفعلي بشرط (لو استقاموا على الطريقة....) وهذه (القوة الكامنة) تتألق وتتكامل تحت الضغوط وعند الشدائد مع شرط الاستقامة (والا فهي محكومة بالانهيارمع انتفاء الشرط) .

 " روي عن جابر الجعفي قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام متى يكون فرجكم؟ فقال: هيهات هيهات لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا ثم تغربلوا، يقولها ثلاثا، حتى يذهب (الله تعالى) الكدر ويبقى الصفو".  الصفوة والنخبة هم الذين قلوبهم كزبر الحديد كما تصفهم الرواية ، الذين امتحن الله قلوبهم للايمان ( تغربلوا).

إن المشروع الالهي يحتاج الى تضحيات تليق بمستوى غاياته الكبرى وتزداد المحن اشتدادا كلما اقترب الفرج من أجل أن تصل البشرية الى مرحلة الجهوزية والاستعداد لاستقبال الفيض المهدوي ودولة العدل الالهي لبقية الله الاعظم ارواحنا لتراب مقدمه الفداء، بحثا عن المخلّص وتوقا للعدل (-طوعا- وإلا كفرت بالشرعية) ؛ لذا نقرأ "حتى تسكنه أرضك طوعا، وتمتعه فيها طويلا"؛ ومن أجل أن تفرز جبهة الخير -الحق- ،عن جبهة  الشر-الباطل- بشكل واضح جلي ؛ اتماما للحجة على البشرية كافة.

ولعل الصحوة العالمية التي يشهدها العالم اليوم، والتي لم يسبق لها مثيل بفضل صمود غزة الأبية ، هي من بشارات وارهاصات الظهور المقدس؛ واقتراب حركة التكامل البشرية نحو تحقيق دولة العدل الالهي على الارض .. انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا.

تمت - والحمد لله رب العالمين.

 

المصادر:

- القرآن الكريم

- بحار الانوار للعلامة المجلسي.

-أحمد علي الحسيني، سُنّة البلاء في القرآن وتعاليم أهل البيت (عليهم السلام): https://www.sibtayn.com/ar

- الأستاذ حيدر حب الله ، محاضرة الشر في القرآن الكريم.

- د.صبري محمد خليل،الابتلاء كمفهوم فلسفي اسلامي لتفسير طبيعة الوجود الانسانى ومفاهيم الخير والشر:

https://drsabrikhalil.wordpress.com

- السيد كمال الحيدري ، كيف نفهم مسألة الخير والشر.

- السيد الشهيد محمد باقر الصدر، السنن التاريخية في القرآن.

- اية الله محمد تقي مصباح اليزدي، كتاب دروس في العقيدةة الاسلامية، العدل الالهي.

- الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري، كتاب العدل الالهي.

- سيد منير الخباز، محاضرة العدل الهي.