بسم الله الرحمن الرحيم

فلسفة العدالة في دولة العدل المنتظر

اعداد وتقديم

أ .أم حسين العمار


(طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) )

المستقبل بين اليأس والأمل
من المسائل المهمة التي وقعت موضوعا للبحث والنقاش بين المدارس الفكرية وقدمت فيها آراء متفاوتة تصل أحيانا إلى حد التباين مسألة المصير والمستقبل البشري .. فما هي نهاية المطاف للمسيرة البشرية ؟ و ما هو لون مستقبلنا ؟ وما الذي ينتظرنا ؟
وجزء كبير من أهمية هذه المسألة يكمن في أثرها على الحاضر الذي نعيشه . فالماضي والحاضر والمستقبل حلقات مترابطة غير قابلة للتفكيك فيما بينها . فما الحاضر إلا نتيجة للماضي ولن يكون المستقبل إلا ما قدمناه في حاضرنا ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) . ومن خلال معرفتنا بالخارطة العامة للمستقبل يمكنك أن تختار موقعنا فيه و نقدم ما ينفع في تحصيل هذا الموقع.
هذه الآيات المباركة من سورة القصص تبين النظرية القرآنية في المستقبل البشري من خلال قصة بني إسرائيل الذين عاشوا ظروفا مهولة و أحاط بهم الرعب وملأ أقطار وجودهم حيث استضعفهم الطاغية واستصغرهم وذبح أبناءهم واستحيا نساءهم . إلا أن الآيات بعد ذلك ـ وكما هو دأب القرآن الكريم ـ تجاوزت هذا الظاهر الفاسد وكشفت الغطاء عن واقع الأمر حين قالت ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) فهذا الحاضر البائس للمستضعفين ليس هو نهاية المطاف بل هو مقدمة لنتيجة مشرقة جدا لهؤلاء المستضعفين . ومستقبل مليء بالعدالة والأمل .حيث يتحول ثقل النعمة من جانب إلى جانب وتتبدل الأسباب ما كان على المستضعفين لهم وما كان لآل فرعون عليهم .
ولا يخفى ما في التعبير بصيغة المضارع ( نريد ) من الدلالة على عمومية هذه الإرادة و أنها قانون عام وسنة إلهية مطردة في مسيرة الإنسان على هذه الأرض ,.يشهد التاريخ على تحققها في مقاطعه المختلفة . وقد تنوع التعبير القرآني عن هذه السنة بالإرادة تارة وبيان العاقبة تارة ( والعاقبة للمتقين ), والكتابة تارة أخرى ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) , وهذه الآية الأخيرة إضافة إلى دلالتها على ما سبق, هي تدل على أمر آخر أيضا وهو أن وراثة الصالحين للأرض ليست نظرية إسلامية فقط , بل هي نظرية عامة لأهل الديانات بل ومن خلال نظرة عامة على الفكر البشري يمكن القول بأن هذه النظرية هي نظرية عامة لبني البشر يقول عنها السيد الشهيد الصدر رضوان الله عليه ( ليس المهدي تجسيدا لعقيدة إسلامية فحسب بل هو عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها وصياغة لإلهام فطري أدرك الناس من خلاله ـ على الرغم من تنوع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب ـ أن للإنسانية يوما موعودا على الأرض تحقق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير وهدفها النهائي وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مر التاريخ استقرارها وطمأنينتها بعد عناء طويل .. بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينيا بالغيب بل امتد إلى غيرهم أيضا وانعكس حتى على أشد الأيدولوجيات والإتجاهات العقائدية رفضا للغيب والغيبيات كالمادية الجدلية التي فسرت التاريخ على أساس التناقضات وآمنت بيوم موعود تصفى فيه كل تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام وهكذا نجد أن التجربة النفسية لهذا الشعور التي مارستها الإنسانية على مر الزمن من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عموما بين أفراد الإنسان )
وهذا يعني أن ثمة تجارب نفسية ونظريات أخرى حول مستقبل العالم , في مقابل هذه النظرية الباعثة على الأمل , إلا أنها لا تتسم بالعموم والإنتشار . وهي النظريات التشاؤمية واليائسة من المستقبل . وهذه النظريات على الأغلب هي وليدة الظروف الخارجية وردة فعل للفشل الذريع الذي منيت به المذاهب والمجتمعات البشرية في تحقيق العدل ورفع الظلم عن كاهل البشرية . وهي وإن كانت تظهر في فترات متفاوتة إلا أنها لا تلبث أن تتلاشى كما حدث لظاهرة الهيبيز التي انتشرت في ستينات وسبعينات القرن الماضي . وتلاشت بعد ذلك . والتلاشي دليل عدم الأصالة .
فالإيمان بيوم الخلاص ووجود المخلص إذا هو المذهب الإنساني الأصيل بل يمكن القول بأن هذا الإيمان هو منبثق من الإيمان الفطري بوجود الله سبحانه وتعالى , لذلك نجد آيات القرآن الكريم تربط اليأس والقنوط من رحمة الله بالكفر (انه لا يياس من روح الله الا القوم الكافرون) إذا في المقابل من يمتلك روح الأمل والمنتظرون لعملية التغيير الكبرى هم القوم المؤمنون دون سواهم .
إلا أن القول بأن هذه النظرية هي النظرية الأصيلة والرائجة بين أغلب بني البشر لا يلزم منه الإتفاق على جميع التفاصيل والجزئيات فيها كما لايخفى .
نعم الجميع يؤمن بيوم الخلاص وامتلاء الأرض قسطا وعدلا . لكن لا يتفق الجميع على معنى العدل ومصداقه . ثم من هو المخلص الذي سيملأ الأرض قسطا وعدلا ؟ وهل هو موجود فعلا أم أنه سيوجد في آخر الزمان ؟ وكيف سيحقق الخلاص ؟ وما هي صفات الدولة التي سيقيمها ؟ وهل لنا نحن أهل الحاضر دور في تأسيس أو إدارة تلك الدولة ؟
وغير ذلك من التفاصيل
هذه أسئلة تتفاوت المدارس الفكرية في الإجابة عليها تبعا لرؤيتها الكونية .
وما يهمنا الجواب عنه حاليا من بين هذه الأسئلة هما السؤالين الأخيرين, حول صفات الدولة التي سيقيمها المخلص ودورنا نحن تجاه تلك الدولة المنتظرة
فما هي صفات الدولة التي سيقيمها المخلص ؟
هذا السؤال كالأسئلة السابقة من حيث اختلاف المدارس الفكرية في الإجابة عليه فلكل مدرسة تصور خاص للمدينة الفاضلة متأثر برؤيتها العامة للكون والحياة
نحن هنا سنقدم صفات هذه الدولة وفقا للرؤية القرآنية التي قدمنا لها بآيات سورة القصص (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
فوفقا لهذه الآيات فإن الدولة المنتظرة هي خافضة رافعة تتبدل فيها المواقع بين المستضعفين والمستكبرين , هذه الآيات تشبه إلى حد كبير ما ورد في الدعاء المنسوب إلى الناحية المقدسة الموسوم بدعاء الإفتتاح ( اللهم إنا نسألك دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله و تذل بها النفاق وأهله )فالصفة الأساسية في هذه الدولة إذا أنها دولة منة للمستضعفين وعذاب وذل للمستكبرين ..
لكن هذه النصوص وأمثالها قد تثير تساؤلا حول هذه الدولة وهو أن اللغة في هذه النصوص هي لغة الوعيد والتهديد للمستكبرين مما يعني أن الدولة المنتظرة لن تكون خالية من العنف وسفك الدماء بل هذا المعنى ورد ذكره صريحا في العديد من الروايات كالرواية عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: (إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلاَّ السيف، ما يأخذ منها إلاَّ السيف، وما يستعجلون بخروج القائم؟ والله ما لباسه إلاَّ الغليظ، وما طعامه إلاَّ الجشب، وما هو إلاَّ السيف، والموت تحت ظلّ السيف)
والرواية التي ذكرها النعماني في كتاب (الغيبة) عن أبي الجارود، عن القاسم ابن الوليد الهمداني، عن الحارث الأعور الهمداني، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (بأبي ابن خيرة الإماء _ يقصد القائم _ يسومهم خسفاً، ويسقيهم بكأس مصبرة، ولا يعطيهم إلاَّ السيف هرجاً… ..
ومع أن أغلب هذه الروايات تعاني من مشكلة في سندها لكنها إلى حد ما مؤيدة لقوله تعالى ( ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون )
فكيف ينسجم هذا مع كون هذه الدولة هي المدينة الفاضلة ومع كون مؤسسها هو المخلص للعالم من الشرور ؟ أليس العنف وسفك الدماء هو ما نريد الخلاص منه ؟ وهل المستقبل السعيد الذي ننشده ونتوق إليه بفطرتنا إلا ذلك الخالي من كل مظاهر القسوة والعنف وسفك الدماء ؟
في الواقع هذا السؤال وإن كان مثارا من البعض فعلا إلا أنه يبدو سؤالا ساذجا جدا
فالصفة الأساسية للدولة المنتظرة هي صفة العدل .. والمخلص هو من يملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا .. وتطبيق العدالة بهذا المعنى يقتضي الوقوف بقوة في وجه الظلم وصده وإنزال العقوبة بالظالمين, كما يقتضي الرحمة واللين في الموضع الذي يستحق ذلك .. فليس العدل إلا وضع الأمور في مواضعها ( وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة )
على أن العقوبة في موضع النكال والنقمة لا تقابل الرحمة بمعناها العام أبدا بل هي مصداق من مصاديقها .. بتعبير آخر نحن عندما نسأل عن الدولة المنتظرة هل هي دولة عنف أم دولة رحمة فإن هذا السؤال مسبب عن اعتقادنا بأن العنف والرحمة متقابلان لا يجتمعان أبدا والحال أن الأمر ليس كذلك
فكثير من حالات العقوبة والشدة في الظاهر هي رحمة ولطف في الباطن كالقصاص مثلا الذي يصفه القرآن الكريم بأنه حياة ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) وكعقوبة الزانية والزاني التي تشدد الآيات على تطبيقها ( ولا تأخذكم بهما رأفة ) ولكن في نفس الوقت تصفها بأنها من دين الله ( في دين الله ) وما دين الله إلا رحمة للعالمين فهذه العقوبة على قسوتها الظاهرية لكنها رحمة من شأنها أن تضمن السلامة للمجتمع
كذلك يقول الله تعالى «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم:» الأنفال – 24، فسمى الجهاد و القتال الذي يدعى له المؤمنون محييا لهم، و معناه أن القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الإسلام أو كان قتالا ابتدائيا كل ذلك بالحقيقة دفاعا عن حق الإنسانية في حياتها .
ومن هذا الباب نجد الله سبحانه وتعالى الذي وسعت رحمته كل شيء يأمر رسوله الذي هو رحمة للعالمين بأن يقاتل الظالمين ويقتلهم حتى ينتهوا عن ظلمهم (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فان انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين) وما حقيقة قتال الظالم إلا إزالة الموانع والعقبات التي تصد المسيرة الإنسانية عن كمالها المنشود
وببيان آخر يمكننا القول بأن الرحمة على نوعين :
1ـ رحمة قلبية عاطفية 2ـ رحمة عقلية
الرحمة القلبية هي التي تكون بدافع العطف الرقة تجاه المبتلى بالنقص والحاجة . والرحمة بهذا المعنى ضاربة في جذور المخلوقات، ومختلطة بكيان الموجودات الحية، حتى إن الفرس لترفع حافرها، والناقة لترفع خفها مخافة أن تصيب ولدها، كما في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله .
لكن هذا النوع من الرحمة يمكن أن تكون له نتائج كارثية حين يقتصر نظر الإنسان على الحاجة الآنية دون النظر إلى العواقب .
أما الرحمة العقلية فهي الرحمة النابعة من مقام الربوبية والتدبير بحيث لا يكون الدافع فيها هو أمر آني ورفع حاجة مستعجلة بل تنظر إلى عاقبة الأمر ودبره
(المدبر هو الذي يتصرف بحكمة بحيث يلاحظ دبر الأمور وعواقبها )
يشبه هذا النوع من الرحمة رحمة الطبيب بالمريض وهو يباشر قطع أحد أعضائه المصاب بالغرغرينا مثلا لحفظ حياة المصاب من التلف . حيث يبدو ظاهر الأمر قسوة وخشونة إلا أنه في الواقع لطف ورحمة وحياة
ومن الواضح أن هذا النوع من الرحمة يحتاج إلى معرفة بدبر الأمور وعواقبها لتكون هذه الرحمة واسعة ممتدة . الله سبحانه وتعال لأنه بكل شيء محيط فقد وسعت رحمته كل شيء ( يا داوود كما لا تضيق الشمس على من جلس فيها كذلك لا تضيق رحمتي على من دخل فيها )
فرحمته لأحد عباده لا تكون على حساب عبد آخر كما لا يكون إحسانه إليه في حال يتعارض مع إحسانه إليه في حال آخر فالعبد كله بروحه وبدنه ومتعلقاته تسعه رحمة الله ولا تضيق عليه ,هذه هي صفة رحمة الله , و إن كان هناك من يتصف بهذا النوع من الرحمة غير الله سبحانه فلا بد أن يكون له ارتباط خاص بالله , بعبارة أخرى لا بد أن يكون مهبط الوحي ليكون معدن الرحمة
وعودا على تلك الروايات التي وصفت الدولة المهدوية بأنها دولة سيف وقتل نقول بأن هناك روايات آخرى لعلها من حيث السند أكثر وثاقة من الأولى تصف الجو العام للمواجهة مع الظالمين وأنه لايخلو من رحمة ورأفة حيث اخرج الصافي في منتخب الأثر عن كشف الأستار للحاج النوري عن عقد الدرر لجمال الدين المقدسي والفتن لأبي صالح السليلي عن أمير المؤمنين (ع) : أنه ـ أي المهدي (ع) – يأخذ البيعة عن أصحابه ، على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يسبوا مسلماً ولا يقتلوا محرماً ولا يهتكوا حريماً محرماً .ولا يهجموا (يهدموا) منزل، ولا يضربوا احداً إلا بالحق ولا يكنزوا ذهباً ولافضة ولابراً ولا شعيراً ، ولا يأكلون مال اليتيم . …
بما تقدم يتضح أن الدولة المنتظرة في مرحلة التأسيس قائمة على الرحمة
أما ما بعد التأسيس فمع أن علماء الإجتماع من قبيل (ماكس فيير) يرون أن العنف مكون أساسي من مكونات الدولة وأن اختفاءه هو اختفاء للدولة، لأن ما سيبقى في حالة اختفاء العنف ليس إلا الفوضى بين مختلف مكونات البناء الاجتماعي .
إلا أن هذا الكلام غير دقيق فإن حاجة الدولة إلى العنف مسببة بأمور تزول الحاجة بزوالها . الدولة التي نحن في صدد الحديث عنها ستتجلى فيها الرحمة بأتم وأكمل وأبهى صورها وسيزول العنف بزوال أسبابه الموضوعية والنفسية يقول الله تعالى (وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا:» فأهم سمات الدولة المنتظرة كما تبينها هذه الآية استبدال حالة الخوف بالأمن ..
ويمكن حصر أسباب العنف فيما يلي :
1ـ ضعف العقل أمام الهوى
القرآن الكريم يحدثنا عن أول حادثة عنف وقعت في المجتمع البشري وهي حادثة قتل قابيل لأخيه هابيل ويبين لنا أن السبب في هذه الحادثة هو تطويع النفس ( فطوعت له نفسه قتل أخيه ) فقتل الأخ ليس بالأمر الهين في نفسه ,ولم يكن هينا على قابيل كذلك , لكن تدريجا يمكن أن يتحول الأمر المرفوض إلى مقبول بل ومطلوب , تماما ككثير من الظواهر التي رفضها المجتمع بشكل فطري واشمأز منها في زمان ثم طوعت له نفسه قبولها تدريجا فأقرها بعد ذلك وقبلها ومارسها أيضا من قبيل زواج المثلين وما أشبه . هذه المسائل تحدث كثيرا في مجتمعاتنا والمسبب الرئيس لها هو وقوع العقل ـ الثابت في أحكامه والأصيل في موقعه ـ تحت أسر الهوى المتغير المتقلب
يقول السيد الطباطبائي ( أن الإنسان لا يستند في شيء من مقاتلاته إلى حكم الاستخدام و الاستعباد المطلق الذي يذعن به في أول أمره فإن هذا حكم مطلق نسخه الإنسان بنفسه عند أول وروده في الاجتماع و اعترف بأنه لا ينبغي أن يتصرف في منافع غيره إلا بمقدار يؤتي غيره من منافع نفسه، بل إنما يستند في ذلك إلى حق الدفاع عن حقوقه في منافعه فيفرض لنفسه حقا ثم يشاهد تضييعه فينهض إلى الدفاع عنه. فكل قتال دفاع في الحقيقة، حتى أن الفاتحين من الملوك و المتغلبين من الدول يفرضون لأنفسهم نوعا من الحق كحق الحاكمية و لياقة التأمر على غيرهم أو عسرة في المعاش أو مضيقة في الأرض أو غير ذلك فيعتذرون بذلك في مهاجمتهم على الناس و سفك الدماء و فساد الأرض و إهلاك الحرث و النسل. )
وهكذا نرى إنسان اليوم كيف طوعت له نفسه قتل أخيه ورأى ذلك حقا من حقوقه ,أو كيف طوع للإخوة قتل بعضهم بعضا تحت عناوين براقة أمثال الديموقراطية والحرية ومحاربة الإرهاب . طبعا المسألة لا تقتصر على العنف على الصعيد الدولي بل حتى على الصعيد الفردي والأسري السبب هو نفسه على الأغلب .
عقول الناس في مرحلة ما قبل قيام دولة الحق هي أسيرة تحت هوى المستكبرين ( كم من عقل أسير تحت هوى أمير ) فلا يسمع الناس إلا ما يراد لهم ,ولا يرون ولا يقرأون و لا يدرسون ولا يفكرون إلا كما يراد لهم .. أي أن ثمة نتائج معدة مسبقا من قبل المستكبرين تقاد إليها عقول الناس ـ على مستوى النظر والعمل ـ أسيرة مكبلة . وهذا هو السبب الرئيسي في العنف والحروب وسفك الدماء بغير حق ..
لكن بعد قيام دولة الحق يقول الإمام الباقر : ( إذا قام قائمُنا وضع الله يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم، وكَمُلت به أحلامهم”
وهذه الرواية فيها إشارة إلى السبب الثاني من أسباب العنف وهو
2ـ الإختلاف في الرؤية والتشخيص
هذا السبب ليس منفصلا عن السبب الأول بل هو امتداد له وأثر من آثاره فالعقل الناقص إما أنه لايرى الحقيقة أو أنه يرى الحقيقة مشوهة أو أنه يرى جزء الحقيقة وهذا ما يؤدي إلى الإختلاف في وجهات النظر والمواقف ومن ثم الصدام . أما حين تكتمل العقول فإن الحقيقة ستظهر بوجه واحد للجميع فتجتمع العقول حينها ( فجمع بها عقولهم ) ويستقيم الناس على الطريقة فيكون سيرهم واحدا لا تصادم فيها ولا اختلاف ويزول السبب الثاني من أسباب العنف
الدنيا في دولة الحق
وباكتمال العقول والإستقامة على الطريقة تتحقق بقية النتائج التي تذكرها الآيات و الروايات لهذه الدولة والتي هي مع قليل من التأمل ستبدوا نتائجا طبيعية جدا وليست من باب المعجزة
هذه النتائج التي أخبر بها القرآن الكريم في أكثر من موضع
يقول تعالى (ولو انهم اقاموا التوراة والانجيل وما انزل اليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون )
ويقول ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض )
ويقول على لسان نوح سلام الله عليه ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ـ يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بـأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا )
ويقول ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا )
النتائج المذكورة في هذه الآيات ما هي إلا نتائج تكوينية طبيعية لا تخلف فيها . فكما أن الحوادث الكونية تؤثر على الإنسان باعتباره جزءا من الكون فإن الإنسان أيضا يؤثر على الحوادث الكونية لنفس السبب
فحين تنبسط يد الولي ويمارس ولايته التامة على المجتمع البشري ويجمع عقول الناس بعد تحريرها من إصرها والأغلال التي كانت عليها النتيجة الطبيعية لذلك هي استقامة الناس واكتمال قوتهم على تسخير الطبيعة بل وما وراء الطبيعة أيضا بعض المفسرين فسر قوله تعالى ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) بالرزق الباطني والظاهري إذ أن مفردة الأكل لا تستعمل في خصوص الأكل المادي فقوله تعالى ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) وقوله ( يأكلون أموال اليتامى ظلما ) تحمل على مطلق التصرف في الأموال .. كذلك هنا حين يقول (لأكلوا ) فهي تحمل على مطلق الإستفادة سواء كانت من النعم الظاهرية ـ فهم سوف يستفيدون من فوقهم المطر وأشعة الشمس وما إلى ذلك ومن تحت أرجلهم تتفجر العيون وتخرج بركات الأرض ـ كذلك من حيث النعم الباطنية والمعنوية هم سيأكلون من تحت أرجلهم بالتعلم في المراكز والمؤسسات العلمية وفي من فوقهم بنزول الملائكة عليهم بالإلهامات الإلهية ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة )
وبهذا أيضا سيزول سبب آخر من أسباب العنف وهو:
3ـ الفقر والحاجة
يقول رسول الله صلى الله عليه وآله : “تقيء الأرض أفلاذ كبدها، أمثَالَ الأسطوان من الذهب والفضّة، فيجيءُ القاتل فيقول: في هذا قتلْتُ، ويجيءُ القاطع فيقول: في هذا قطعتُ رحمي، ويجيءُ السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثمّ يدَعونه فلا يأخذون منه شيئاً
وهكذا يتضح لنا جليا أن الدولة المنتظرة في الرؤية القرآنية هي دولة تتجلى فيها نعمة الولاية بالتجلي التام . وكما أتم الله النعمة على عباده في يوم الغدير تتم استفادة الناس من هذه النعمة بزوال الموانع في دولة المهدي .
بقي سؤال مهم جدا حول دورنا نحن تجاه هذه الدولة
فما هو دورنا نحن تجاه الدولة المنتظرة ؟
هذا السؤال يختلف عن باقي الأسئلة المتقدمة حول قضية المهدي الموعود , إذ أن الغالبية من الناس وإن اتفقوا على فكرة مجيء المخلص وقيام دولة الحق .لكن من بين جميع المدارس والمذاهب فإن المذهب الإمامي قد يكون هو الوحيد الذي يتعامل مع هذه القضية ويتفاعل معها كأمر واقع . ويعتبر الإنتظار جزءاً لا يتجزأ من القضية المهدوية بل من المفردات الأصلية لفهم الدين والحركة الاجتماعية للأمة الإسلامية نحو أهداف الإسلام العليا.
يقول المستشرق البريطاني هنري كوربان
(التشيع يرفض أن يكون مستقبله وراءه: بخلاف الإسلام السنِّي الأكثري الذي لم يعد للإنسانية في نظره، بعد النبي الأخير، من جديدٍ تنتظره، يحافظ التشيع على المستقبل مفتوحًا، بإعلانه أنه حتى بعد مجيء خاتم الأنبياء، ثمة أمور بعدُ للانتظار، أي إظهار المعنى الروحي للرسالات التي أتى بها الأنبياءُ الكبار. تلك كانت المهمة التأويلية التي تولاَّها الأئمةُ الأطهار. […] لكن هذا الإدراك الروحي لن يكون كاملاً إلا في نهاية عصرنا، عند ظهور الإمام الثاني عشر، الإمام الغائب في الوقت الحاضر والقطب العرفاني لهذا العالم )
ويقول أيضا
(إن كلَّ ما ظهر ويستمر في الظهور على الوعي الشيعي في صورة الإمام الثاني عشر وأحداث سيرته: ولادته، غيبته، ظهوراته، مجيئه كفارقليط – إن ذلك كلَّه ينبغي له، من الآن فصاعدًا، أن يكون له معنى عند الغربي، ومن الآن فصاعدًا، ينبغي ألا يكون الطرح الشيعي عن الإمام الغائب قصيًّا عن دراساتنا [الغربية] في الميتافيزيقا الأخروي )
ونجد آثار هذا التعاطي جليا في التراث الشيعي بشكل لافت للنظر فمع أن قضية المهدي الموعود كما بينا في بداية الحديث هي عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية عامة ومع أن جميع المسلمين يروون عن النبي الخاتم قوله ( أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج ) لكننا لا نجد آثار هذا الإنتظار في تراث أي مدرسة كما نجدها في التراث الشيعي حيث يروي الشيعة عن أئمتهم المئات من الروايات والأدعية التي تصوغ نفسية الإنسان بكيفية تتناسب مع الإنتظار وتعده وتهيئه للمستقبل السعيد على مختلف الأصعدة .
لنأخذ على سبيل المثال دعاء الندبة الذي يقرأه الشيعة كل جمعة ,و الذي يرويه العلامة ابن طاووس في مصباح الزائر عن الإمام الحجة كما ذكرالعلامة المجلسي في زاد المعاد أنه مروي بسند معتبر عن الإمام الصادق عليه السلام وكفى بهذا الدعاء اعتمادا وتوثيقا , مواظبة أكابر علماء الطائفة على إتيانه في القرون المتلاحقة
هذا الدعاء هو رواية لمسيرة الأولياء الذين جعلهم الله الذَّريعَةَ اِلَيْه وَالْوَسيلَةَ اِلى رِضْوانِه بلسان الدعاء بين يدي الله سبحانه وهذه الرواية هي بمثابة التوطئة والمقدمة لما سيأتي بعد ذلك , وهو البكاء والندبة ( فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما فليبك الباكون .وإياهم فليندب النادبون. ولمثلهم فلتذرف الدموع من العيون .. )
لماذا ؟ وما هي فلسفة هذا البكاء ؟
الجواب على هذا السؤال هو ما يميز هذا الدعاء ويجعله شبيه بالمعجزة ..
فهذا الدعاء في عين كونه رسالة عشق خاصة يعيش معها الإنسان ألذ و أحلى حالات الخلوة مع معشوقه إلا أنه أيضا يخرج الإنسان من ذاته و يشق جدران الأنا عنده ليصبح همه واسعا جدا بسعة هموم الأنبياء والأوصياء
حيث يضج الداعي قائلا
اَيْنَ بَقِيَّةُ اللهِ الَّتي لا تَخْلُو مِنَ الْعِتْرَةِ الْهادِيـَةِ، اَيـْنَ الـْمُعَدُّ لِـقَطْعِ دابِرِ الظَّلَمَةِ، اَيْنَ الْمُنْتَظَرُ لاِقامَةِ الاْمْتِ وَاْلعِوَجِ، اَيْنَ الْمُرْتَجى لاِزالَةِ الْجَوْرِ وَالْعُدْوانِ، اَيْنَ الْمُدَّخَرُ لِتَجْديدِ الْفَرآئِضِ و السُّنَنِ، اَيْنَ الْمُتَخَيَّرُ لاِعادَةِ الْمِلَّةِ وَالشَّريعَةِ، اَيْنَ الْمُؤَمَّلُ لاِحْياءِ الْكِتابِ وَحُدُودِهِ، اَيْنَ مُحْيي مَعالِمِ الدّينِ وَاَهْلِهِ، اَيْنَ قاصِمُ شَوْكَةِ الْمُعْتَدينَ، اَيْنَ هادِمُ اَبْنِيَةِ الشِّرْكِ وَالنِّفاقِ، اَيْنَ مُبيدُ اَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيانِ وَالطُّغْيانِ، اَيْنَ حاصِدُ فُرُوعِ الْغَيِّ وَالشِّقاقِ (النِفاقِ)، اَيْنَ طامِسُ آثارِ الزَّيْغِ وَالاهْواء،ِ اَيْنَ قاطِعُ حَبائِلِ الْكِذْبِ (الكَذِبِ) وَالاْفْتِراءِ، اَيْنَ مُبيدُ الْعُتاةِ وَالْمَرَدَةِ، اَيْنَ مُسْتَأصِلُ اَهْلِ الْعِنادِ وَالتَّضْليلِ وَالاْلْحادِ، اَيْنَ مُـعِزُّ الاْوْلِياءِ وَمُذِلُّ الاْعْداءِ، اَيْنَ جامِعُ الْكَلِمَةِ (الكَلِمِ)عَلَى التَّقْوى،
لهذا يبكي الداعي لقطع دابر الظلمة وإقامة الأمت والعوج وتجديد الفرائض والسنن ,و هذه الأمور ليست إلا أهداف الأنبياء ورسالات السماء . من السهل أن يبكي الإنسان على مصابه, بل من السهل أن يبكي الإنسان لمنظر مؤلم يشاهده ويتصوره .. لكن البكاء من أجل حقوق البشرية !! هذا يحتاج إلى قلب واسع وصدر منشرح بسع ذلك كله , وهذه هي حقيقة الندبة وطلب الفرج .
أحد أصحاب الإمام الصادق يقول : قلت للصادق (ع) : العبادة مع الإمام منكم المستتر في السرّ في دولة الباطل أفضل ؟.. أم العبادة في ظهور الحقّ ودولته مع الإمام الظاهر منكم ؟..
فقال : يا عمار !.. الصدقة في السرّ والله أفضل من الصدقة في العلانية ، وكذلك عبادتكم في السرّ مع إمامكم المستتر في دولة الباطل أفضل ، لخوفكم من عدوكم في دولة الباطل وحال الهدنة ، ممن يعبد الله في ظهور الحقّ مع الإمام الظاهر في دولة الحقّ ، وليس العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة مع الأمن في دولة الحقّ .
اعلموا أنّ مَن صلّى منكم صلاة فريضة وحداناً ، مستتراً بها من عدوه في وقتها فأتمّها ، كتب الله عزّ وجلّ له بها خمسة وعشرين صلاة فريضة وحدانية ، ومن صلّى منكم صلاة نافلة في وقتها فأتمها ، كتب الله عزّ وجلّ له بها عشر صلوات نوافل ، ومن عمل منكم حسنةً كتب الله له بها عشرين حسنة ، ويُضاعف الله تعالى حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله ، ودان الله بالتقية على دينه وعلى إمامه وعلى نفسه ، وأمسك من لسانه أضعافا مضاعفة كثيرة ، إنّ الله عزّ وجلّ كريم .
فقلت : جعلت فداك !.. قد رغّبتني في العمل ، وحثثتني عليه ، ولكني أحب أن أعلم : كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام منكم الظاهر في دولة الحق ، ونحن وهم على دينٍ واحدٍ ، وهو دين الله عزّ وجلّ ؟..
فقال (ع) : إنكم سبقتموهم إلى الدخول في دين الله وإلى الصلاة والصوم والحجّ وإلى كل فقه وخير ، وإلى عبادة الله سرّاً من عدوكم مع الإمام المستتر ، مطيعون له ، صابرون معه ، منتظرون لدولة الحق ، خائفون على إمامكم وعلى أنفسكم من الملوك ، تنظرون إلى حقّ إمامكم وحقكم في أيدي الظلمة ، قد منعوكم ذلك واضطروكم إلى جذب الدنيا وطلب المعاش ، مع الصبر على دينكم ، وعبادتكم ، وطاعة ربكم ، والخوف من عدوكم ، فبذلك ضاعف الله أعمالكم ، فهنيئاً لكم هنيئاً .
فقلت : جعلت فداك !.. فما نتمنى إذاً أن نكون من أصحاب القائم (ع) في ظهور الحق ؟.. ونحن اليوم في إمامتك وطاعتك أفضل أعمالاً من أعمال أصحاب دولة الحق ؟.. فقال : سبحان الله !.. أما تحبون أن يُظهر الله عزّ وجل الحقّ والعدل في البلاد ، ويحسّن حال عامة الناس ، ويجمع الله الكلمة ، ويؤلف بين القلوب المختلفة ، ولا يُعصى الله في أرضه ، ويُقام حدود الله في خلقه ، ويُردّ الحقّ إلى أهله ، فيظهروه حتى لا يستخفي بشيءٍ من الحقّ مخافة أحدٍ من الخلق ؟
ما ذكره الإمام الصادق هنا تحت عنوان ( أما تحبون ) هو عينه ما يوجهنا دعاء الندبة للبحث عنه بأين وأين
وهذا السؤال بأين وأين وإن كان إنشاء وطلبا في الظاهر لكنه يتضمن توجيها وصياغة روحية للمنتظر .
أولا ـ هذا السؤال يثير حالة الهم وعدم الرضا والألم بسبب الأمت والعوج والجور والعدوان
ثانيا ـ هذا السؤال يثير حالة الأمل أيضا بإزالة تلك المسببات للألم
وكل من الألم والأمل ركن أساسي في عملية الإنتظار فمن لا يتألم ليس له دافع لطلب الخلاص ومن لا أمل لديه كان يأسه مانعا من الحركة والطلب .,
وكما أن القلب المادي الطبيعي به شقين شق أيمن وآخر أيسر وطالما كانت هناك موازنة بين الشقين في استقبال الدم وضخه إلى البدن كان القلب سليما .. كذلك القلب في عالم العرفان الذي هو مركز الشعور والإدراك والحس أيضا له شقين قال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : كان أبي يقول : ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران : نور خيفة ، ونور رجاء ، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا .) الرجاء وألم الخوف علامة إيمان القلب وسلامته ..
القلب الذي هو مركز المعرفة والإيمان سلامته موكولة بطبيعة ونحو آلامه وآماله فالمؤمن من ساءته سيئته وسرته حسنته .. الشعور بالسيئة والألم كاشف ودليل على أن نبض القب صحيح وسليم وكذلك إذا سرته حسناته , هذا على صعيد أعمال الإنسان وطموحه الشخصي كذلك في المجال الأوسع والأهم وهو ما يوجهنا إليه دعاء الندبة , فالمؤمن من سرته صحة وسلامة مجتمعه وإقامة الأمت والعوج فيه ومن ساءته سيئات مجتمعه من جور وعدوان وتعدي .
إذا السؤال بأين وأين هو حث على الإنتظار بإثارة الأمل والألم ببيان مراكز الألم ومثيراته
الأمر الآخر المستفاد من هذا المقطع من الدعاء هو أن ما وقع موضوعا للبحث والسؤال والبكاء ليس دين الله فدين الله محفوظ لا يضره كفر الناس . لكنا نبحث عمن يحيي الدين في المجتمع وعن الحياة الإجتماعية للدين . أين محيي معالم الدين وأهله أين المدخر لتجديد الفرائض والسنن . الذي سينفض الغبار عما بلى من أحكام الإسلام من حيث حضورها وتجسيدها وتداولها بين الفقهاء والسياسيين والناس عموما فيستخرج ما كان محجورا عليه من أحكام ونظريات ليعيده إلى عقول الرأي العام وليصل بعد ذلك إلى تجسيد عملي عبر إقامة حكم إسلامي .
وهذا بمثابة توجيه الإنسان في مسيرته في زمان الغيبة وما قبل الظهور نحو من تنطبق عليه هذه العناوين وإن بشكل غير تام . فالباحث الواقعي عن مولاه يتلمس آثاره وصفاته في كل ما حوله . بل توجهنا هذه العبارات إلى أن نسعى نحن إلى الإتصاف بهذه الصفات بالدرجة الممكنة لنا
وهذا ما يعطي للمنتظر الواقعي قوة يهابها أقوى الفراعنة على الأرض . إن كانت الآيات التي قرأناها في بداية الحديث تصف المنتظرين الذين يرثون الأرض بـ ( المستضعفين ) ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ) إلا أن الإستضعاف لا يعني الضعف أبدا من كان ضعيفا في نفسه لاحاجة للظالم في استضعافه . هؤلاء المستضعفون كما تصفهم الروايات ( عظماء في السماء ) والوصف السماوي تعبير عن الوصف الواقعي للشيء . لذلك نجد القرآن الكريم يصفهم في موضع آخر بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ..
هذا إضافة إلى أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف .فالمؤمن الضعيف لن يكون قادرا على عمارة الأرض و إدارتها فلا يستحق لذلك وراثة الأرض ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) والصلاح ليس إلا القوة في جانبي العلم والعمل
و بهذا البيان يمكن الخلوص إلى أهم ما ينبغي على المنتظر تحقيقه على الصعيد الفردي ( النفسي ـ والعلمي ـ والعملي ) وكذلك على الصعيد الإجتماعي ليكون منتظرا واقعيا وممهدا لدولة الحق
وبهذا يكون المنتظِر قد ساهم في تهيئة الظروف الموضوعية للظهور . (فكلّ عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية لا يتأتى لها أن تحقق هدفها إلاّ عندما تتوفر تلك الشروط والظروف. وتتميز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجرها السماء على الأرض بأنها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية ؛ لانّ الرسالة التي تعتمدها عملية التغيير هنا ربانية ، ومن صنع السماء لا من صنع الظروف الموضوعية ، ولكنها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف. ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتى أنزلت آخر رسالاتها على يدّ النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّ الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك. والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير ، منها ما يشكّل المناخ المناسب والجوّ العام للتغيير المستهدف ، ومنها ما يشكّل بعض التفاصيل التي تتطلبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية. )
( وأعني بالظروف الموضوعية : الحالة السياسية والحالة الاجتماعية للأمة والواقع الدولي المعاصر ، ومدى قدرة الأمة في إمكاناتها الذاتية واستعدادها النفسي..) السيد الشهيد الصدر بحث حول المهدي